ثمن مغامرات إيران الإقليمية
زعماء إيران لهم اليد الطولى في الشرق الأوسط فيما يبدو. فقد ساعدوا في تأمين نظام الأسد في سوريا، وفي توفير مكانة راسخة لـ«حزب الله» في لبنان. والميليشيات الشيعية البارزة في العراق تتبع هواها ولها سلطان على حكومة بغداد. والأسلحة التي تقدمها إيران ومنها الصواريخ توفر وسيلة رخيصة لـ«الحوثيين» في اليمن لسفك دماء السعوديين. ويتصدر قاسم سليماني قائد قوات «فيلق القدس» الإيرانية وهي وحدة استكشافية من قوات حرس ما يعرف بـ«الثورة الإسلامية» العناوين في العالم العربي. مما ينقل انطباعاً بأن إيران وحلفاءها لا يمكن إلحاق الهزيمة بهم. وسعت إيران إلى أن تسوق وتستغل صورة هيمنة إيران. وتحدث المرشد الأعلى علي خامنئي عن لبنان وسوريا والعراق باعتبارها خطوط الدفاع الأمامية لإيران. وأعلن مستشاره البارز علي أكبر ولايتي أثناء زيارة للبنان في نوفمبر الماضي أن لبنان بالإضافة إلى فلسطين وسوريا والعراق جزء من منطقة المقاومة التي تتزعمها إيران. لكن هناك كلفة للتوسعية الإيرانية ونحن نشهد هذا حالياً.
فقد احتج مواطنون إيرانيون في أنحاء البلاد في المدن الكبيرة والصغيرة. وبدأت الاحتجاجات يوم 28 ديسمبر في «مشهد»، ثاني أكبر مدن إيران، وانتشرت على امتداد البلاد لتصل إلى قزوين وكرج ودورود وقم وطهران. ولم ينزل إلى الشوارع فيما يبدو الطبقة الوسطى في الحضر فحسب بل شارك أيضا الطبقتان الفقيرة والفئة الدنيا من الطبقة الوسطى. وانتشرت اللافتات التي تنتقد الفساد وهتف بعض المحتجين بشعارات تدعو بالموت للطاغية في إشارة إلى خامنئي. وانتقد المحتجون بشدة أيضا كلفة المغامرات الخارجية الإيرانية. وكان من بين أوائل الهتافات «ليس غزة... ليس لبنان... حياتي من أجل إيران».
وكانت الشكاوى الاقتصادية في بداية الأمر هي ما يحرك هذه الاحتجاجات، فبعد تقليص الدعم على سلع أساسية مثل الخبز، ارتفعت الأسعار بشدة مما أضر كثيراً بالإيرانيين من أصحاب الدخل المنخفض. وإنهار عدد من المؤسسات الائتمانية وخسر عدد كبير من الناس مدخراتهم. وقلصت ضغوط التضخم قيمة العملة الإيرانية، وأثرت على أجور كثيرين من المواطنين. صحيح أن الفوائد الاقتصادية المتوقعة من الاتفاق النووي لم تتحقق، لكن هذا لا يقدم إلا جانباً من الإجابة على مشكلة معاناة إيران الاقتصادية. ولطالما أُسيئت إدارة الاقتصاد الإيراني وشوهت قوات «الحرس الثوري» والجمعيات الدينية الكبيرة المعروفة باسم «بنياد» الاقتصاد الإيراني، وربما تؤثر على نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
لكن بالنسبة لنظام يفتخر بهيمنته ويتذكر جيداً ما أسقط الشاه محمد رضا بهلوي، فإن رؤية المحتجين وهم يتدفقون في الشوارع لا تسر هذا النظام. وردد بعض المحتجين هتافات تدعو إلى إجراء استفتاء مما يعيد إلى الأذهان ذكرى الاستفتاء الذي عقده النظام الجديد بعد شهرين من قيام الثورة الإسلامية عام 1979 ليوفر لنفسه المشروعية. ولم يتورع النظام الإيراني عن استخدام القوة والقمع للحفاظ على وجوده. ومازال مرشحان رئاسيان لانتخابات عام 2009 وهما مير حسين موسوي رئيس الوزراء السابق ومهدي كروبي الرئيس السابق للبرلمان الإيراني قيد الإقامة الجبرية لأنهما طعنا في نتيجة الانتخابات باحتمال تزويرها. وربما هزت احتجاجات عام 2009 النظام الإيراني، لكنه سيطر على الموقف بالاعتقالات واستخدام العنف وتفتيت المعارضة.
كما أن أحد الأسباب التي سمحت لحسن روحاني بالفوز بالانتخابات الرئاسية عام 2013 وسمحت باتمام الصفقة النووية هو قدرته على تفهم أن الحملة الأمنية لعام 2009 والتدهور الاقتصادي التالي قد قلصا مشروعية النظام. وكان من المهم استعادة الإحساس بأن التغيير ممكن. وحين تتاح فرصة للجمهور الإيراني بالتعبير عن وجهات نظره فإنه يصوت نمطيا لتحرير المجتمع في الداخل وتطبيع العلاقات في الخارج. ورغم هذا، تشهد إيران حاليا أشد الاحتجاجات منذ عام 2009. وموجة الاحتجاجات لم تندلع بسبب نتائج انتخابات بل بسبب العسر الاقتصادي والاستياء العام. ورغم أن الاحتجاجات الحالية أصغر من احتجاجات عام 2009 لكنها أوسع انتشاراً ولا تشبهها في أن المناطق الريفية التي تتعاطف تقليديا مع النظام أصبحت في الصدارة.
إذن، ما الذي يجب على الولايات المتحدة فعله؟ في يونيو 2009 كنت أعمل في إدارة أوباما مستشاراً خاصاً لوزير الخارجية بشأن إيران وكنت جزءاً من عملية صناعة القرار. ولأننا كنا نخشى من أن يستغلنا النظام الإيراني لمصلحته ونضفي مصداقية على زعمه بأن الاحتجاجات تم التحريض عليها من الخارج، اخترنا تبني موقف غير بارز. ورجوعي بالذكرى يجعلني أقول إن هذا كان خطأ. بل كان يجب أن نلقي الضوء على ما كان يفعله النظام، ونحشد حلفاءنا لفعل الشيء نفسه وكان يجب أن نبذل أقصى ما لدينا لتقديم أنباء من الخارج وتيسير الاتصالات في الداخل. وكان بوسعنا أن نحاول بذل المزيد لخلق بدائل للتواصل الاجتماعي ونجعل من الصعب على النظام إغلاق بعض المنابر.
وفي ذاك الوقت كان أوباما يستأثر بخيال العالم. وكان من السهل عليه أن يحشد الدعم للحقوق الإنسانية والسياسية للشعب الإيراني. ومن الواضح أن ترامب لا يتمتع بهذه المكانة دولياً ولا يعتبر بطلاً لحقوق الإنسان. لكن مازال الدرس الذي استفدته من عام 2009 هو أن الولايات المتحدة يجب ألا تبقى صامتة. ويجب على الإدارة أن تراقب المحتجين بشكل واقعي ومن دون مبالغة وأن تلفت الانتباه إلى الصعوبات الاقتصادية التي دفعت إلى الاحتجاجات وهي الصعوبات التي تفاقمت بالتأكيد بسبب مغامرات إيران في الشرق الأوسط. فالمحتجون يسألون عن سبب إنفاق أموالهم في لبنان وسوريا وغزة ويجب على الإدارة أن تعلن تقديرات لما تنفقه إيران بالفعل. ويُقدر ما قدمته إيران لجماعة «حزب الله» وحدها بأكثر من 800 مليون دولار في العام الواحد ويبلغ ما تنفقه إيران للحفاظ على نظام الأسد بضعة مليارات الدولارات.
دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة الفرنسيين والألمان ظلوا صامتين إلى حد كبير حتى الآن. والتكتل الأوروبي لن يستجيب لدعوات ترامب لكن يجب تشجيعه رغم هذا على أن يقف بجانب حقوق الإنسان للمشاركين في احتجاجات سلمية والذين يواجهون حملة أمنية أشد من النظام الإيراني. وكان ترامب قد أعلن أنه يريد التصدي لمساعي زعزعة الاستقرار التي تقوم بها إيران في المنطقة. وفي هذه المسألة بذلت إدارته القليل جداً كي تفاقم الكلفة التي يتكبدها الإيرانيون نتيجة أعمالهم الإقليمية. وفي سوريا التي تعد عماد مساعي طهران لتوسيع مجال سيطرتها ليس لدى إدارة ترامب استراتيجية مناهضة لإيران. ومن المثير للسخرية أن الجمهور الإيراني يوضح بجلاء أنه سئم من كلفة توسع البلاد في المنطقة. وإلقاء الضوء على هذه الكلفة سيعزز الاستياء العام بشكل أكبر. وكلما اعتقد النظام الإيراني أن مغامراته الخارجية قد تزعزع قواعده في الداخل كلما زاد احتمال أن يغيّر تصرفاته.
عن درية «فورين بوليسي»
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»